لم يكن الشرق الأوسط يوماً غائباً عن أجندة الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن خرجت الأخيرة منتصرة من الحرب العالمية الثانية، كقوة عظمى تمتلك القدرة والنفوذ للتأثير في السياسة العالمية. هذه المنطقة التي تحمل في قلبها منابع النفط، مهد الأديان والحضارات، كانت محط أنظار القوى الكبرى على مرّ التاريخ. ولكن مع صعود الولايات المتحدة إلى المشهد، اكتسبت هذه النظرة أبعاداً أيديولوجية واقتصادية واستراتيجية جديدة.
البداية: الشرق الأوسط في عين أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة في تشكيل سياسة خارجية جديدة تجاه الشرق الأوسط. لم يكن النفط وحده هو الذي يجذبها، بل كذلك الموقع الجيوسياسي لهذه المنطقة، خاصةً مع تصاعد النفوذ السوفيتي في العالم. وقد عبر عن هذا التوجّه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، الذي تبنى ما يُعرف بـ"مبدأ أيزنهاور" عام 1957. والذي يهدف إلى تقديم المساعدات للدول العربية لمواجهة التمدد الشيوعي. أرادت واشنطن أن تصبح حليفاً رئيسياً للدول الشرق أوسطية، فأوجدت في هذا المبدأ وسيلة لتوطيد قدمها في المنطقة.
حرب السويس وتغير المشهد
كانت أزمة السويس عام 1956 نقطة تحول بارزة في تاريخ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. حيث قام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ما دفع بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى شن هجوم على مصر لاستعادة السيطرة على القناة. ورغم أنه من المفترض أن تكون أمريكا داعمة لحلفائها، إلا أن الرئيس الأمريكي حينها دوايت أيزنهاور رفض التدخل بجانبهم. كان أيزنهاور يخشى أن يؤدي هذا التدخل إلى تعزيز النفوذ السوفيتي في المنطقة وتفاقم الأوضاع. وأثبتت هذه الأزمة أن الولايات المتحدة مستعدة للتحرك باستقلالية عن حلفائها التقليديين إذا تعارضت مصالحهم مع استراتيجيتها الخاصة.
يرى الكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل أن حرب السويس كانت لحظة مفصلية أظهرت فيها الولايات المتحدة "أنها تنظر إلى المنطقة من خلال مصالحها فقط"، وأن "السياسة الأمريكية كانت تسعى لضبط الإيقاع دون الوقوع في مواجهة مباشرة". وبهذا وضعت واشنطن قواعد جديدة للتعامل مع المنطقة: دعم الأنظمة التي تقبل بالنفوذ الأمريكي والابتعاد عن المعسكر الشيوعي.
السياسة الأمريكية وكيسنجر: عقيدة الاستقرار على حساب الحرية
في السبعينيات، برز اسم هنري كيسنجر كأحد الشخصيات الأمريكية الأكثر تأثيراً في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. كان كيسنجر يؤمن بفكرة "الاستقرار على حساب الحرية"، فركز على دعم الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط طالما كانت تضمن المصالح الأمريكية. وقد تجلى هذا التوجه بشكل كبير أثناء حرب أكتوبر 1973، حيث لعب كيسنجر دور الوسيط بين العرب وإسرائيل، مع حرصه على استمرار النفوذ الأمريكي في المنطقة وعدم السماح للاتحاد السوفيتي بالتحرك بحرية. يقول كيسنجر: "إن السلام في الشرق الأوسط يجب أن يكون مرناً، ويعتمد على توازنات دقيقة تضمن استقراراً هشاً لكنه متواصل".
ويرى بعض النقاد أن هذه السياسة أدت إلى نتائج عكسية، حيث زرعت بذور عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. فقد دعم كيسنجر الديكتاتوريات، وغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان مقابل ضمان النفط والأمن. يقول محمد حسنين هيكل: "لقد ظن الأمريكيون أن دعمهم للأنظمة السلطوية سيمنحهم ولاءً طويل الأمد، إلا أنهم تجاهلوا أن القهر يولد الانتقام، وأن غضب الشعوب لا يمكن قمعه إلى الأبد".
انعكاسات الحرب الباردة على الشرق الأوسط
مع استمرار الحرب الباردة، أصبحت المنطقة ساحة مواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وقد تدخلت الولايات المتحدة في العديد من الدول العربية لمنع انتشار الشيوعية، كما حدث في لبنان عام 1958، حيث أرسلت القوات الأمريكية لدعم الحكومة اللبنانية في مواجهة محاولات الانقلاب الشيوعي.
ومنذ ذلك الحين، توالت الأزمات وتعددت تدخلات الولايات المتحدة في المنطقة، سواء بشكل مباشر أو من خلال الدعم غير المباشر للحكومات. كانت واشنطن تهدف، في ظل الحرب الباردة، إلى بناء حزام من الأنظمة التي تناهض الشيوعية، حتى وإن كان ذلك يعني دعم أنظمة غير ديمقراطية ومستبدة.
مرحلة ما بعد الحرب الباردة و"نهاية التاريخ"
مع سقوط الاتحاد السوفيتي، توقع المنظرون في الغرب أن ينتهي الصراع الأيديولوجي، وأن تنتصر الديمقراطية في العالم. أعلن المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ"، معتقداً أن الديمقراطية الليبرالية هي الغاية التي تسعى إليها جميع الأمم. ولكن الشرق الأوسط كان بعيداً عن هذه النظرية. فقد استمرت الولايات المتحدة في دعم الأنظمة التي تضمن مصالحها، بعيداً عن فكرة نشر الديمقراطية الحقيقية.
ورغم محاولة واشنطن تسويق "الديمقراطية" كهدف استراتيجي، لم تتجاوز خطواتها الشكليات. ففي العراق، أدى التدخل العسكري عام 2003 إلى تفكك الدولة، وظهور موجة جديدة من العنف والتطرف. بينما شهدت دول أخرى محاولات فرض أنظمة سياسية تتماشى مع الرؤية الأمريكية، ولكنها لم تكن ملائمة للواقع الاجتماعي والثقافي في المنطقة.
الربيع العربي: سقوط الأقنعة
كانت ثورات الربيع العربي في 2011 مفاجأة غير متوقعة لأمريكا وحلفائها في المنطقة. خرجت الشعوب العربية للمطالبة بالحرية والديمقراطية، وهو الأمر الذي وضع واشنطن في موقف حرج، حيث لم تعد تستطيع دعم الأنظمة السلطوية علناً، وفي الوقت نفسه لم تكن واثقة من نتائج دعمها لهذه الثورات. لقد ترددت الولايات المتحدة بين التمسك باستراتيجيتها القديمة في دعم الاستقرار، وبين الانصياع لمطالب الشعوب بالتغيير.
أدركت واشنطن أن سياستها القديمة كانت تشوبها عيوب هيكلية، وأن دعمها للأنظمة السلطوية كان سبباً رئيسياً في تأجيج غضب الشعوب. كما لاحظ الكثيرون كيف تخلت الولايات المتحدة عن بعض حلفائها التقليديين خلال الربيع العربي، مثل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، عندما بدا واضحاً أن الشعب قد قال كلمته. وهنا ظهرت مقولة محمد حسنين هيكل بأن "واشنطن تبيع أصدقاءها في اللحظات الحرجة، وأن مصالحها هي التي تقودها، لا الوفاء بالتحالفات".
الختام: سياسة ازدواجية المعايير
اليوم، تواجه الولايات المتحدة تحديات أكبر في الشرق الأوسط. إذ لم تعد تتعامل مع أنظمة فقط، بل تواجه شعوباً تطالب بالحرية والكرامة. فالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، التي اعتمدت لعقود على دعم الأنظمة بغض النظر عن شرعيتها، أضحت محاصرة بواقع جديد يفرض عليها إما التخلي عن ازدواجية المعايير، أو المخاطرة بفقدان مصداقيتها.
يبدو أن الولايات المتحدة قد وضعت نفسها في زاوية صعبة، فهل ستتمكن من إعادة صياغة سياستها بما يتناسب مع التغيرات الحاصلة؟ أم أن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ستظل دائماً على رأس أولوياتها، بغض النظر عن مصير الشعوب؟
تعليقات
إرسال تعليق